قال سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي في كتابه "المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثيّة" :"الأسارى أسير نفس وأسير شهوة وأسير هوى
ذكر أنّ الأسارى على أقسام ثلاثة المقيّدون الأرقة لوجود الغير فهم أسير النفس وهو أحقر الأسارى لأنّ الحاكم عليه جائر لا يعفو عنه
فليبك أسير النفس لما حلّ به وهل ينفع البكاء بدون النجاة
فمن كان أسيرا لنفسه يحتمل أن كلّ الطوارىء تطرأ عليه لأنّ أشرارها لا تتناهى فهي زائدة بصاحبها إلى ما لا نهاية له ومن نعتها طلب الاستقلال والخروج عن حكم الألوهيّة فهي تسعى في سلطة ذلك من كلّ الوجوه حتى إذا عدمته من وجهه فلا تسمح فيه من بقية الوجوه قال عليه الصلاة والسلام اللهمّ رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين واصلح لي شأني كلّه رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه
ألا ترى أنّ النفس قبل أن تدخل في الإسلام تنكر وجود الألوهيّة رأسا حتى إذا انقادت وتحمّلت ثقل الإقرار بالألوهيّة قد تنكر سلطة الربوبيّة عليها ولا تخضع لذلك إلاّ بتمهيد وتدريب وإذا مالت وثبتت ونبتت في العمل لا تسمح بترك الجزاء عليه بل تقول أنا الفاعلة لذلك ولا بدّ من الجزاء وإذا كابدتها على تركه بقولك أين الإخلاص؟ قد تسمح في الجزاء ولكن لا تقطع النظر من كونها هي الفاعلة لذلك حتى إذا قلت لها أين التوحيد؟ وأين فهمك من قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون الصافات آية 96 فتسمح في العلل ولا تسمح في الوجود بل تقول أنا موجودة ولو لم يبق لها إلاّ مجرد الصورة فتتعلّق بها وتتعشق ولا تسمح بانعدامها وإذا أنعم الله عليها بفنائها وتجلّى عليها تجليّا يوجب اضمحلالها وتلاشيها ومحوها من لوحة الوجود فتستريح حينئذ من دعوى الوجود لأنّ الحقّ يقوم بدلها ولكن بعد الرجوع لا تلبث إلاّ أن تقول الآن صار قولي بالله أقول ولا فخر ولم يبق لها إلاّ اللسان وحاصل الأمر أنّ شرور النفس أكثر من أن تحصى وقد صنفت فيها تصانيف حفظنا الله من شرّها
وأمّا أسير الشهوات فهو أسير فرع من فروعها وليس هو كالأسير الأول بل تميل الشهوة به إلى الطاعة إذا وجد فيها شهوة فهو يقصدها حيث وجدها بقطع النظر عن كونها طاعة أو معصية والواقف مع شهواته في الغالب يسقط من عين ربّه فهو مطلوب بالخروج من هذا الوصف والمخالفة المعتادة ولا يرضى بالرقية إلاّ جهول قيل في هذا المعنى
إذا طالبتك النفس يوما بشهوة وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف من هوت فإنّما هواك عدو والخلاف صديق
والعزّ كلّه في مخالفة الهــوى وقد ذلّ من كان إليه رفيـق
وأمّا أسير الهوى فهو أسير فرع من فروع النفس وأثر من أثارها وصاحب هذا المقام تراه يميل مع الهوى حيث مال ليس له منوال ثابت سريع التقلب في الأفعال والأحكام متخذا إلهه هواه يتبعه كيفما اعتراه أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم الجاثية آية 23 يخشى عليه في الغالب أن يأخذه الله نكالا وهو لا يشعر لما أصابه من نشوة الهوى
أسير الهوى سال معجب بحاله ولم يدر ما به من البعد والهجر
وقال غيره
ولا تتبع النفس في هواهـا فإنّ إتباع الهوى هوان
وربّما كان صاحب الهوى يتصرّف في الشرع بهوى نفسه بدون أن يلاحظ ما وجب عليه حتى يزجّه لجّة لا نجاة له منها إلاّ إذا تداركه الله بلطفه وأنقذه من هوى نفسه وأوقفه عند ما وجب عليه وإلاّ لا يؤمن عليه لقوله عليه الصلاة والسلام لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين رواه مسلم في صحيحه
بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة
المحاسبة أول درجة السائرين وبها يصل العبد إلى مكان المقرّبين ومعناها عدم استرسال النفس في ميادين المخالفة لأنّ المحاسبة تعوّق النفس عن الانهماك الكلّي فإذا تمكّن العبد في هذه الرتبة ودام عليها يصل إلى درجة المراقبة لأنّ المحاسبة تكون مع الغفلة فإذا حضرت المراقبة وهي كناية عن شهود الحقّ من وراء حجاب مع عدم الإدراك أو تقول استحضار علم الله بالعبد واستشعار إحاطة البصر بكلّ موجود فصاحب هذا المقام على كلّ حال في هيبة وأدب خارج عن المحاسبة لأنّها تكون بعد الوقوع والمراقبة تمنع العبد من الوقوع في المخالفة لما هو عليه من استشعار مطالعة الله عليه في سائر أحواله وإذا دام العبد على هذه الحالة غالبا ما تصير له المشاهدة ومن يتقّ الله يجعل له مخرجا الطلاق آية 2 أي فمن يتقّ الله من وراء حجاب ويخشاه بالغيب يجعل له مخرجا من سجن المكوّن إلى شهود المكوّن لصلاحيته لذلك الشأن فمحاسبة ثمّ مراقبة ثمّ مشاهدة فهذا مجموع الدين إسلام وإيمان وإحسان
لا تعم عن نقصان نفسك فتطغى
إذا كان الإنسان لا يبال بنقصان عمره وغفل عن مرور الليالي والأنفاس المعدودة عليه لا شكّ يطغى حتى يأخذه الله أخذا وبيلا وهو لا يشعر فهو مستدرج للآخرة شيئا فشيئا دون أن يحسّ بنفسه سنستدرجهم من حيث لا يعلمون القلم آية 44 ولهذا قال عليه الصلاة والسلام اكثروا من ذكر هادم اللذّات وهو الموت رواه النسائي في سننه فإنّ الإنسان إذا شعر بنقصان الأنفاس وكان بصيرا بضعف الحواس فلا جرم يشتغل بما يعينه لأنّه في سير إلى الآخرة يأخذ من دنياه إلى أخراه ومن صحته إلى موته ومن عمي عن ذلك تراه كأنّه لم ينقص له شيء من حياته مع أن عمره أعز عليه من كل عزيز وقد مر أكثره وهو لا يشعر ولا ينتبه ولا يتزود للرحيل فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور الحج آية 46
من نسب لنفسه حالا أو مقاما فهو بعيد عن طرقات المعارف
العارف لا ينسب لنفسه حالا ولا مقاما لفنائه عن المقامات والدرجات والأحوال مالكة لأهل البداية مملوكة لأهل النهاية والعارف غني بالله وقيل إنّ العارف من قامت به المعارف لا من قام هو بها فهي تولت أمره وحاله يدلّ عليه دون أن ينسب شيئا لنفسه مشتغلا بتصحيح أحواله مع الله قاطع النظر عن الخلق لا يتصنع لأحد تاركا الحقّ ينوب عنه في شؤونه ومن قام بمقال أو حال فذلك ليس من نسبته لنفسه لأنّ النفس ذهبت مع الذاهبين قيل في هذا المعنى
خلّفت أهلي ونفسي حقّا تركتها وكنت لنور الحقّ بالحقّ سارع"