الإشكال:
ما يتمسك به الحشوية من قول أبي الحسن الأشعري في "رسالة لأهل الثغر":
"الإجماع التاسع:وأنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه وقد دل على ذلك بقوله { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } وقال { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال { الرحمن على العرش استوى } وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر لأنه تعالى لم يزل مستوليا على كل شيء."اهـ
الرد لشيخنا الأزهري حفظه الله:
هذا النص لا إشكال فيه على مفهوم الأشاعرة، ولكن الوهابية لا يفهمونه على مراد قائله ومذهبه بل على مرادهم هم بحمل المعاني على تلك الحسية وهذا خطأ منهجي.
وبيان ذلك كالتالي:
أولا معنى (على عرشه دون أرضه):
اعلم أن هذه العبارة إنما يبحثها أئمتنا من باب (التوقيف) وهو ما ورد الإذن بإطلاقه أو(عدم التوقيف) وهو ما لم يرد الإذن به، فهم يتكلمون هنا من هذه الناحية، فيقولون بأن الإذن ورد بإطلاق أنه تعالى على العرش وفي السماء ـ إطلاقا وتلفظا ـ ولم يأذن بإطلاق أنه في الأرض، فالمسألة مسألة إطلاق ألفاظ وتوقيف، ولهذا نقول عن الله تعالى بأنه حكيم ولا نقول بأنه ذكي وعاقل، ومع هذا فكل هذه الألفاظ بعد الإذن في إطلاقها ليست على ظاهرها بإجماع الأشاعرة حتى صاحب هذه العبارة، بدليل نصوصهم الأخرى في كتبهم ـ ولولا خشية الإطالة لنقلناها هنا ـ فالمسألة مسألة توقيف وعدمه، وإلا فإن العرش والسماء والأرض كلها أماكن وحكمها من حيث أنها أماكن ومن حيث استحالة حلول الخالق فيها على حد واحد بلا خلاف، ولا خلاف بين الأشاعرة متقدميهم ومتأخريهم في أن الله تعالى منزه عن المكان والزمان، فكلام أئمتنا من باب غير الباب الذي يدخل منه الحشوية فانتبه لهذه المسألة.
هذا ما يتعلق بمسألة على العرش دون الأرض.
ثانيا : نقد التأويل بـ(الاستيلاء) :
فنقول : هذا مذهب الإمام الأشعري ومتقدمي أصحابه واختيارهم، لكن لا من الناحية التي يتوهمها الحشوية، وهي مجرد نسبة هذا التأويل للقدرية ! فإن مجرد هذه النسبة لا تقتضي في ذاتها ذما ولا مدحا، والدليل هو الفيصل، وإنما يبحثها الأشعري من ناحية أخرى معروفة حتى عند ابن تيمية ولكن كثيرا من الوهابية لا يفهمونها أو يتعمدون عدم فهمها، فالأشعري ومتقدمو أصحابه يقررون ههنا أمرين معا هما السبب الجوهري في رفضهم لهذا التأويل:
الأول : أن الاستواء الوارد في الآيات حادث مخلوق ـ لا قديم ـ بدليل كلمة (ثم) المفيدة للعطف مع التراخي والمفهمة أن هذا الاستواء لم يكن له وجود ثم حصل وجوده بعد مدة، ولهذا فليس صفة لذات الله تعالى عند الأشعري، بل هو فعل وخلق لله فعله في العرش كما خلق سائر مخلوقاته .. وهذا الذي قررناه يعترف به ابن تيمية في كتبه التي منها شرحه لحديث النزول.
الثاني : أن الاستواء خاص بالعرش دون غيره، ولهذا ذكر العرش من بين سائر المخلوقات.
ولهذين السببين معا ـ وليس لمجرد نسبة القول للقدرية ـ تراهم ـ الأشعري ومتقدمي أصحابه ـ يرفضون في تفسير الاستواء كل معنى قديم كالاستيلاء والعلو والفوقية عندهم، لأن الله لم يزل كذلك، وهذه التأويلات لا تتناسب ـ عندهم ـ مع ما تفيده حقيقة كلمة (ثم) فهو تعالى لم يزل كذلك.
كما يرفضون التأويل بالاستيلاء والعلو والفوقية للسبب الثاني وهو أن هذه المعاني لا تختص بالعرش فالله تعالى لم يزل مستوليا عاليا على كل شيء وليس العرش فقط، فكأن تفسير الاستواء بالعلو والاستيلاء والفوقية يذهب فائدة تخصيص العرش!
فلهذين السببين معا لا يقبل الأشعري ومتقدمو أصحابه هذه التأويلات.
لكن يجب أن نلاحظ أن من بين هذه التأويلات التي يردها الأشعري (العلو والفوقية) أي أن المسألة لا تختص بالاستيلاء كما يتوهمه الوهابية، ولهذا فالوهابية لما لم يفهمو هذه المسألة توهموا أن النقد منصب على الاستيلاء وحده بينما هم يقولون بالعلو والفوقية ! وهذا ـ على مذهب الأشعري نفسه ـ تناقض.
ثالثا جماعة من الحنابلة يوافقون الأشعري:
جدير بالذكر أن جماعة من الحنابلة القدماء وافقوا الأشعري بل ربما يكونون إنما قالوا بقوله وقلدوه في هذه المسألة وكانوا صرحاء في الاعتراض على الاستيلاء وكذا العلو والفوقية .. ولعل أشهر من يحضرني ذكرهم القاضي أبو يعلى الحنبلي الحشوي فهو موافق للأشعري في هذه المسألة مصرح برد العلو والفوقية، وكذلك صاحب النقض على بشر المريسي .. فهم يرفضون هذه التأويلات للسببين الذين ذكرهما الأشعري.
رابعا بين الأشعري ومجاهد وأبي العالية:
قد عرفنا رأي الأشعري ومن وافقه، ولكن بنظرة سريعة على ما ورد عن السلف من تأويل للاستواء نجد التأويل بالعلو والفوقية منقولا عن إمامين جليلين من السلف هما مجاهد وأبو العالية ! وهذان الإمامان مفسران مشهوران من تلاميذ ابن عباس وغيره من الصحابة، وينقل عنهما هذا التأويل الإمام البخاري في صحيحه والإمام الطبري في تفسيره مقرين، ويقرر الطبري العلو قائلا علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال.
فما هو موقف الأشعري ومن وافقه من الحنابلة وغيرهم من هذا التأويل المنقول عن إمامين من أئمة السلف الصالح ؟
ليس الأشعري قطعا بالمقلد كما هو معلوم لنا، ولا هو بالغافل عما ورد عن مجاهد وأبي العالية من التأويل بالفوقية والعلو ـ وهما التأويلان اللذان يدندن حولهما الحشوية كثيرا ـ ولا هو بالذي يستأسر لكلام من تقدمه إذا اعتقد خطأه، فالأشعري بما قرره هو ومقتدمو أصحابه وبمن وافقه من الحنابلة صريح في تخطئة ما ذهب إليه مجاهد وأبو العالية للسببين الذين تقدم ذكرهما.
خامسا موقف متأخري الأشاعرة من القولين:
هنا لا بد أن نبين أن متأخري الأشاعرة ـ أعني من في طبقة إمام الحرمين ـ لم يقفوا من كلام الإمام الأشعري وتأويل مجاهد وأبي العالية موقف المقلد متبلد الذهن، بل وقفوا منه موقف المتفكر الناقد الحصيف، فنظر أئمتنا إلى المعنيين الذين من أجلهما منع الأشعري التأويل بالاستيلاء والعلو والفوقية فرأوا أن ما ذهب إليه الإمام ليس بلازم، لأن كلمة (ثم) لا تستعمل للتراخي دائما بل قد يجوز أن تجيء بمعنى الواو:
قال ابن هشام : ((وأما المهلة فزعم الفراء أنها قد تتخلف بدليل قولك أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب لأن ثم في ذلك لترتيب الإخبار ولا تراخي بين الإخبارين وجعل منه ابن مالك ( ثم آتينا موسى الكتاب ) الآية))اهـ.
وأما مسألة تخصيص العرش بالذكر فهذا لأنه أعظم خلق الله فذكره من باب التنبيه بالأعلى على الأدني وليس لأن المعاني المذكورة تخصه دون غيره.
ولما كانت هذه المناقشة من متأخري الأشاعرة لإمامهم في غاية القوة والمتانة بحيث أن المسألة تفتح باب الاحتمال والإمكان بلاشك على أقل تقدير فقد اعتبر الأشاعرة أن الإنصاف وترك التقليد الأعمى يقتضيان الاعتراف باحتمال صحة جواب متأخريهم على الأقل لينضم إلى رأي الإمام وليكوِّنا معا رأيين في مذهب أهل السنة في تأويل الآية، وبهذا صار قول الأشعري وقول مجاهد وأبي العالية قبله رأيين في المذهب الأشعري، وانضم إليهما تفويض الإمام مالك أيضا فصارت أشهر الأقوال في الاستواء ثلاثة:
* ـ تأويله بالفوقية وعلو الملك والسلطان وهذا لمجاهد وأبي العالية والطبري ومن وافقهم وعليه يأتي جواز الاستيلاء.
* ـ الله أعلم بمراده للإمام مالك ومن وافقه.
* ـ أنه فعل فعله الله في العرش خاصة الله أعلم به، ورفض التأويل الأول، وهذا للأشعري ومن وافقه.
والاعتراف بهذه الأقوال من مقتضيات الإنصاف وترك التقليد، وكلها قُبلت عند الأشاعرة، وكونت المذهب الأشعري، وعليه فإطلاق أن الاستيلاء هو مذهب الأشاعرة خطأ، كما أن من الخطأ القول بأن الاستيلاء هو مذهب الأشعري نفسه، بل التحقيق أن مذهب الأشاعرة محتمل للاستيلاء، وأما مذهب الأشعري نفسه فهو رد التأويل بالاستيلاء والفوقية والعلو ..
سادسا عبارة (لأنه تعالى لم يزل مستوليا).
هذه العبارة تقضي على سعادة الحشوية بهذا النص من رسالة أهل الثغر، وتهدم ما بنوه هدما لا بناء بعده، وذلك لأن الحشوية لجهلهم يعادون الاستيلاء بلا فهم، بل بمجرد التقليد الأعمى، فهم لا يعرفون لماذا رد الأشعري وأصحابه هذا التأويل، ولذلك تراهم يردون الاستيلاء ويقبلون العلو والفوقية ! وهذا لا يفعله إلا من جهل كلام الأشعري وأصحابه ومرادهم، وهذه العبارة الآن، تدل على أن قائلها :
أولا : يعترف بأن من معاني الاستواء الاستيلاء إلا أنه لا يختاره هنا.
ثانيا: يعترف أن هذا المعنى لائق بالله ويجوز إطلاقه عليه.
ثالثا: ويعترف أنه من صفات ذاته تعالى
ورابعا: يعترف أن الله لم يزل متصفا به لأنه من صفات الذات.
وهذه الاعترافات الأربعة كلها ضرورية من قوله: (لم يزل مستوليا).
وهذه الاعترافات الأربعة كلها مردودة عند الحشوية لأن الاستيلاء عندهم محال على الله فهم دوما يزعمون أن الاستيلاء لا يليق بالله لأنه يفهم منه عندهم المغالبة ووجود من يعارض الله في خلقه، وهذه الأغاليط عندهم لا تلتقي أبدا مع هذا النص المنقول هنا.
سابعا وأخيرا من هو مؤلف رسالة أهل الثغر؟
هو الإمام أبو عبد الله بن مجاهد تلميذ الأشعري، والفقير أول من تنبه لهذا وقد ذكرت هذا في مجلس السيد حسن السقاف بحضور الشيخ إياد الغوج الذي استحسن ذلك الكشف جدا وطلب مني كتابة شيء حوله، وأشرت إلى هذا مرارا على الشبكة ثم قام أحدهم بكتابة بحث حول فكرتي هذه ونشره، وأدلة أن الكتاب لابن مجاهد تتلخص في التالي:
ـ أسند ابن خير الإشبيلي هذه الرسالة لابن مجاهد.
ـ عدد من أئمة المالكية نقلوا من هذه الرسالة ونسبوها لابن مجاهد.
ـ النسخة الخطية الفريدة مشتملة على تاريخ تأليفها قرأه بعضهم 260 وهذا محال لأنه وقت ولادة الأشعري، وقرأه بعضهم 290 وهذا بعيد لأن الأشعري حينها لم يصر سنيا، ولو فرضنا ذلك فيبعد أن تطبق شهرته الأرض في ذلك التاريخ إلى أن تصل إلى أهل الثغر من نواحي المشرق البعيد، وقرأه بعضهم 360هـ وهو الصواب وهو وقت شهرة أبي عبد الله بن مجاهد، وهذه النسبة التي صححناها تبقى ظنية راجحة لا قطعية، مع ضرورة التنبه إلى أن المطبوع من هذا الكتاب فيه تحريفات كثيرة خصوصا طبعة الجليند ..
هذا باختصار والله أعلم.