سؤال كثيرا ما يُسأل..
سؤال غالبا ما يكون ممزوجا بشيء من الحيرة أو ربما الإحباط ..
( ماذا أفعل كي أصل إلى ربي.. أي كيف أصل إلى رضاه وأكون كما أراد لي أن أكون؟ )
كثيرا ما يجاب على هذا السؤال بـ :
ابدأ بتزكية نفسك وإصلاحها.
أو
عليك بالتزام الحق وحسن الاتباع.
هذه أجوبة صحيحة ولكنها لا تجعلك تضع أصبعك على وسط مركز الوجع. هي صحيحة ولكن دونها الكثير الكثير من التفاصيل.
فقد يقول زيد:
أنا أريد الله وأعرف أنه علي أن أزكي نفسي ولكنني مكبلّ، فكيف تطالب أسيرا مقيدا بالأصفاد أن يقوم ويمشي أمامك! فأن أزكي نفسي يعني أن أفعل شيئا، فكيف تقول لمن لا يستطيع الفعل أن يفعل؟!
وقد يقول عمرو:
أعرف أنه علي التزام الحق واتباعه، وأنا ملتزم بكليات الدين ولكن ماذا أفعل بالجزئيات التي أنا محتار فيها، ماذا أفعل فيما أختُلف فيه من الحق؟!
لذلك، فلا بد من معرفة محورين تتكون منهما الإجابة:
المحور الأول هو الأنين الوجداني:
وفيه الجواب على السؤال: "كيف تطالب أسيرا مقيدا بالأصفاد أن يقوم ويمشي أمامك! فأن أزكي نفسي يعني أن أفعل شيئا، فكيف تقول لمن لا يستطيع الفعل أن يفعل؟!"
فما هو الأنين الوجداني؟
إنه ليس فعلا بالجوارح حتى لا يقول الأسير "تطالبني بالفعل وأنا مكبل". كما أنه ليس فعلا عقليا يستطيعه عقل دون عقل، فهو لا يتطلب عبقرية ولا صفات ذهنية مميزة. كما أنه ليس علما يحتاج الإنسان أن يتعلمه من معلم. إنه أمر متعلق بالفطرة. إنه أمر متعلق بحقيقتك أنت وليس أمرا تأتي به من الخارج. فليس عليك إلا أن تكون أنت ولا تغطي حقيقتك ولا تتلهى عنها بالتزييف. الأنين الوجداني هو صرخة استغاثة القلب طلبا لماء الإخلاص. نعم، الإخلاص موهبة من الله وليس حالا أوتوماتيكيا للنفس. الإخلاص يأتي بالمدد من الله. الإخلاص غيث الصادق. ومن هو الصادق؟ الصادق هو الذي يكون لسان حال قلبه أنينا وجدانيا مستمرا يطلب الإخلاص، يطلب الحق، يطلب اليقين.
ولا تقل أن هذا الأنين الوجداني يحتاج إلى إنسان متميز دينيا لكي يسكن قلبه. كلا، فإن هذا الأنين موجود في قلوب كثير من رواد الخمارات وأماكن المجون، بل وموجود في قلوب بعض اللصوص والجانحين، المسألة فقط أنك لم تطلع عليه.. وإنما يطلع عليه الذي يعلم ما في الصدور. هذا الأنين هو الذي يجعل هؤلاء أهل توبة وصلاح، كلاً في أوانه الذي قدره له ربه. بل ربما يجعل من بعضهم أهل ولاية خاصة كبرى بعد توبتهم.
طيب، ربما تسأل: كيف أفعل هذا الأنين الوجداني الذي هو نقطة البداية؟ وماذا أفعل إن لم اجده في قلبي؟
فاعلم أخي أنني في هذا المقال لا أعلمك كيف تصبح ذا أنين وجداني، ولا أدلك من أين تحصله، ولكنني إنما أنبّهك لوجوده، إن كان موجودا أصلا لديك. فأنا فقط أعطيه اسما هو "الأنين الوجداني". أما مسماه فهو فيك. وإذا لم يكن فيك فستُعرِض عن هذا المقال. هل فهمت أخي؟. هذا الأنين مرتبط بوجود صدق الطلب في قلبك. ولعلنا نصفه بأنه "الدعاء الصامت المستمر"، وأعني بالمستمر الذي يتكرر الشعور به على مدار الأيام، ولا أعني أنه حاضر في القلب كل لحظة وكل دقيقة. ولكنه بلا شك ليس ذلك الذي يظهر في السنة مرة واحدة!
فما هو هذا الدعاء الصامت المتكرر كثيرا؟
إنه ترجمة {اهدنا الصراط المستقيم} بالحال. أي هو الحال الذي ينبغي أن يكون في قلب من يقول في كل صلاة {اهدنا الصراط المستقيم}. هو حال من يريد الاستقامة في كل شيء. إنه الحال المتعلق بوجود "خوف مزعج أو شوق مقلق". فالذي في قلبه خوف مزعج أو شوق مقلق يعرف حال من يدعو بـ {اهدنا الصراط المستقيم}. والذي ليس فيه لا هذا ولا ذاك فلن يحتاج لهذا الكلام، لأنه سيكون إما من الذين رضوا بالحياة الدنيا أو الذين رضوا عن أنفسهم، وهؤلاء وإن نجوا فإنهم ليسوا من أهل الأنين الوجداني ولن يكونوا يوما من أهل القرب وإن آل بهم الأمر لأن يكونوا من أهل الحسنات الكثيرة.
ولكن هذا الأنين الوجداني ليس سهلا، ولا يجعل الحياة سهلة، لأنه يضاد الرضا بالدنيا والرضا عن النفس، وحتى لمن هو غارق في متاع الدنيا فإن الأنين تعكير للملذات داخلي لا بد منه. ولكنه باب القربات ومفتاح الفلاح.
وقد تسأل: هل ينتهي هذا الأنين الوجداني بعد الاستقامة والصلاح؟
الجواب: كلا، يظل موجودا بصورة أصغر أو أكبر، لأنه متعلق بطلب الكمالات، والكمالات لا تنتهي. فالشيخ المستقيم العالم العلامة الفقيه ليس معفيا منه إلا أن يعفي هو نفسه، وحاله من جنس حال الأعرابي الذي قال (والله لا أنقص ولا أزيد)، وإن كان بمستوى أعلى وأرفع. قال التاج ابن عطاء الله "العارف لا يزول اضطراره ولا يكون مع غير الله قراره". ولك أن تعتبر هذا الاضطرار من الأنين، أو الأنين من الاضطرار. لاحظ أنه قال "العارف" لا العالم أو الفقيه. فبعض الفقهاء عارفون وليس كلهم. الفقيه قد يزول اضطراره عندما يرى استقامة نفسه أما العارف فنظره دائما إلى القرب، فإذا اقترب طمع فيما هو أقرب. فهو كالمجذوب إلى ذات ربه من الناصية يعجل إليه حثيثا كما يسبح الكوكب في مداره لا يتوقف ولا يخرج عنه. لا يقر للعارف قرار إلا بالشهود، ولا يهنأ له عيش إلا عندما يرتاح من السوى.
المحور الثاني هو الفهم:
وفيه الجواب على سؤال "أعرف أنه علي التزام الحق واتباعه، وأنا ملتزم بكليات الدين ولكن ماذا أفعل بالجزئيات التي أنا محتار فيها، ماذا أفعل فيما أختُلف فيه من الحق؟!"
أريد أن أربط هنا بين هذا المحور والذي سبقة. فالفهم متعلق بالأنين الوجداني من حيث أن الفهم موهبة، وقد تُطلَب من خلال الأنين على الدوام لأنها من جملة الخير الذي يطمع فيه المؤمن.
لا أعني بالفهم هنا العلم، وإن كنت أظن أن كثيرا من السابقين قد عبروا عنه بالعلم تارة أو بالفقه تارة أخرى. العلم بمعناه العام هو حصول صورة المعلوم في الذهن وإدراكه لها. ولكن الفهم هو الربط بين هذا الإدراك المجرد وبين القلب وما استقر فيه من يقين وإخلاص وحب وشوق وخوف ورجاء وغير ذلك من أحوال. هذا التفاعل الدائم بين العلم والقلب وأحواله الشتى ينتج الفهم. والفهم باب يفتح ألف باب، وله كليات يقاس عليها بمنطق خاص بالقلب يوجه صاحبه إلى الأصوب والأرشد في كبريات المسائل. وهو لا يعصم من الخطأ الذي يُجَلّي بشرية الإنسان وضعفه، ولكنه يعصم من الخطأ الذي يُردي الإنسان ويهلكه. الخطأ جزء من طبع الإنسان، وليس الخطر في أن تخطيء، ولكن الخطر في أن لا تكون من أهل التوفيق. فرق كبير بين من يتعثر المرة تلو المرة بين الأشجار، وبين ومن يحطبها بليل ويخبط فيها خبط عشواء. فرق كبير بين من يقع كل حين وحين فيخدش رجله أو يلوي كاحله وبين يقع فيهوي في واد سحيق.
الفهم موهبة وهي كالمرآة الصقيلة، تريك الأشياء بحجمها الحقيقي. وقد تريك العنقاء وأنت لا تعرف حقيقة العنقاء، ولكنك إذا رأيت العنقاء مرة أخرى فستعرف أنها العنقاء لا غيرها.
الفهم عجيب لأنه يخبرك ما الذي يستحق أن تفهمه وما الذي لا يستحق أن تفهمه، كما يخبرك ما هو الذي يمكنك أن تفهمه وما الذي لا يمكنك أن تفهمه.
الفهم يقدح في قلبك لمعات حول عواقب الأحداث والأفعال، فهو لا يريك الغيب ولكن يعطيك إشارات تبني عليها.
الفهم للسالك كالدليل المرشد.
بعض السالكين يظن أنه يسير إلى الله بالأحوال فقط، وهذا خطأ.
كيف أسير إلى الله وأنا لا أفهم سنن الله في خلقه وأربطها بما يحدث لي كل يوم؟!
كيف أسير إلى الله وأنا لا أفهم قوانين السلوك؟!
أما كيف يُحصَّل الفهم، فهذا يكون بالسلوك العملي وأركانه السبعة (الحب، الامتثال، الذكر، الفكر، الصمت، الخلوة، الجوع) وخصوصا بالركن الرابع (الفكر)، فالفكر باب الفهم الأكبر. وربما لا يأتي الفهم في بعض الأمور السلوكية إلا بعد التجربة والخطأ.
---------------------------------------------
ملحق:
لقد نويت بما سبق من كلام أن أخفف عنك أخي السالك بعضا من العناء والحيرة. ذلك لكي تتذكر أن صاحب هذا الأنين أو الدعاء أو الطلب الوجداني (الباطني الشعوري) هو صاحب الصدق. فإن كنت من هؤلاء فتيقن أن هذا الصدق سيقودك إلى مسجد العبدية في نهاية المطاف ولو مشيت على الشوك ووقعت في ألف حفرة وانتابك اليأس. فهذا سر إن كان الله قد أودعه في روحك فلا بد أنه سيقودك إلى مولاك ويدخلك حضرة خاصته حتى ولو ظننت أحيانا بأنك لا تريد ذلك. هذا الكلام لن يجعلك تركن لأنه إن كان فيك ذلك السر فلن تركن أو تعتزل، وإن لم يكن فيك ذلك السر فلن تحتاج إلى كلام لتركن. هل فهمت؟
الأمور مقدرة ومرتبة والحقائق لا تتغير، وما الوجود في هذه الدنيا إلا لتتجلى الحقائق بالأفعال ليراها أصحاب العلم المقيد بالحواس.
إن كنت من أصحاب السر فلن تركن إلى مقام تعلم أنه بالإمكان الوصول لأعلى منه. وإن كنت من أصحاب السر فلن ترى المقامات إلا وسيلة وسلما، ولن تركن إلى المقام أو اللامقام، لأن المطلوب أمامك ألا وهو ربك الذي لا إله إلا هو، الذي تقدست ذاته عن المثيل، وتقدس وجوده عن شبيه، وتقدس جماله عن الشريك، فالجمال له وإن توهم المتوهمون.
وبهذا تفهم لماذا انقسم الإنس والجن إلى أصحاب شمال، وأصحاب يمين، وسابقين مقربين. وتعلم كيف يفكر الراضي عنه نفسه المصر على دوام معصيته، فإن الحجر مهما رميته إلى فوق فلا بد أن يعود إلى الأرض، لأن تلك هي حقيقته، أما الثريا فلن تستطيع أن تشدها بأمراس كتان، فضلا عن أن تسحبها لتستقر في الأرض.
هذا الكلام حجة عليك لا لك. فالركون إلى المعصية لا يكون عند صاحب السر إلا كخلسة المختلس، لا يرضى بها أبدا وإن وقع فيها دهرا. يعكرها عليه السر فتكون متعتها ممزوجة أبدا بالغصص مهما كثرت أو طال الوقت معها. عاص لا يمقت نفسه في الله لا ينتهي أبدا إلى مقامات القرب. ولا يدخل الجنة إلا كرامة لغيره لا كرامة له.
الصدق سيقودك إلى مسجد العبدية في نهاية المطاف ولو مشيت على الشوك ووقعت في ألف حفرة وانتابك اليأس، ولو عاداك الناس وآذوك وكنت محل استهزائهم. سيقودك الصدق إلى مولاك مهما كان شكلك أو لونك أو جنسك، ذكرا أو أنثى، ومهما كان فيك من النواقص العارضة، بل ومهما وقعت في أمور سيئة بجهل أو وقعت لك بظلم، ومهما كان رأي الناس بك ونظرتهم إليك، ولو كنت بنظرهم أحقر الخلق وأجدرهم بالملام ووصف السوء، ومهما تجلى ضعفك ونقصك لنفسك ولغيرك. كل ذلك لا يغير شيئا من حقيقة ولايتك التي ستتجلى لك مع الوقت وينكشف حجابها عنك ولو كان ذلك عند موتك. فحقيقتك هي حقيقتك إن كانت حقيقتك ،وكل ما قد تمر به مما ذكرنا وأشباهه إنما هي تلونات زائلة في حكم العدم ولا وزن لها بذاتها. أركز على هذا لأنني أعرف أن هذه الأمور العارضة الماشية إلى زوالها ستعترض طريقك كثيرا، وستقطع عليك سيرك إلى من إليه المنتهى. ستغرقك وتحجبك وتؤخرك وتؤلمك وتحزنك، إن استطعت أن تلقي بها وراء ظهرك فافعل، ولو بالتدريب والتدريج. كن حقيقتك، عانق مصيرك، ارض بالمر والقهر والذل لعلمك بأن ذلك مؤقت وعما قليل ينجلى ليل آلامك وتشرق شمس سعدك سرمدا عليك.
إن النقص والضعف والتعثر الذي تعانيه يعلمه الله ويعلم دواعيه وبواعثه ويعلم إن كنت مضطرا أو مستكبرا، فلا تخف ظانا بأن الله لن يعلم التفاصيل التي تعلمها عن نفسك، أو أنه لن يعاملك بما تستحق أو لن يتجاوز عما بدر من ضعفك. كيف تظن أيها السالك أن الله تعالى سيمنعك من دخول الحضرة القدسية في نهاية أمرك وهو يعلم أنك أفنيت حياتك مشغول القلب بها مشتاقا إلى العودة إلى ذلك الحمى، كيف يعقل هذا! كيف وهو جل شأنه طالبك له قبل أن تطلبه!
وأخيرا، قد يظن السالك أنه إن ارتاح من متاعب الدنيا وحصل على راحة البال فإنه سيرتاح أبدا، وهذا تلبيس آني على السالك، فهو لا يعلم أنه لو فرضنا أنه ارتاح باله من كل الهموم وانتهى من كل المشاق والآلام وسكن في النعيم فإن حقيقة شوقه إلى ربه ستتجلى بصورة أكبر مما كانت عليه أوان مشقته، فقد ذهب التعب وذهب التكليف وذهب الخوف وزال ما يدعو للتقرب إلى الله لمصلحة غير حب ذات الله. فما الأمر؟! ولماذا القلب فارغ بعد كل ذلك؟! ذلك لأن حقيقة السالك الصادق مختلفة عن حقيقة غيره، وما خلق له مختلف عما خلق له غيره.
والله ولي التوفيق