فائدة جليلة من الباب السادس من كتاب العِلْمِ من إحياء علوم الدين لِلإمام جامع أشتات العلوم والمبَرِّز في المنقول منها والمفهوم حجة الإسلام أبي حامدٍ الغَـزَّالِيّ رضوان الله عليه قال :
يَنبغي أن يَكونَ المتعلِّمُ مِن جِنسِ ما رُوِيَ عَن حاتِمٍ الأصَمِّ - تِلميذِ شَقِيقٍ البَلْخِيِّ رضي الله عنهما - أنه قالَ لهُ شَقِيقٌ : مُنذُ كَم صَحِبتَنِي ؟
قال حاتِم : منذ ثلاثٍ وثلاثين سنة .
قال : فما تعلمتَ منِّي فِي هذه الْمُدَّةِ ؟
قال : ثَمانِيَ مسائل .
قال شقيق له : إنا لله وإنا إليه راجعُونَ ، ذهبَ عُمُرِي مَعك ولَم تتعلم إلا ثَمانِيَ مسائل ؟!
قال : يا أستاذُ لَم أتعلّم غيـرَها ، وإنِّي لا أحِبّ أن أكذِبَ .
فقال : هاتِ هذه الثمانِيَ مسائل حتى أسْمَعَها .
قال حاتِـم :
(( نظرتُ إلَى هذا الخلق فرأيتُ كلَّ واحدٍ يُحِبُّ مَحبوباً فهو مع مَحبوبه إلَى القَبْر فإذا وصَلَ إلى القَبْرِ فارَقَه ، فجعلتُ الحسناتِ مَحبوبِي ، فإذا دخلتُ القبْرَ دَخَلَ مَحبوبِي مَعِي .))
فقال : أحسنتَ يا حاتِم فما الثانية ؟
فقال :
(( نظرتُ في قولِ الله عَزّ وجَلّ ﴿ وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّـهِے ونَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰٰ ﴾ فعلمتُ أنّ قولَه سبحانه وتعالَى هو الحقُّ ، فأجهدتُ نفسي في دَفعِ الهوَى حتى استقرّت على طاعة الله تعالَى .
الثالثة : أنِّي نظرتُ إلى هذا الخلقِ فرأيتُ كلّ مَن مَعَه شيء له قيمة ومقدار رفعَهَ وحَفِظَه ، ثُم نظرتُ إلى قول الله عز وجل ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّـهِ بَاقٍ ﴾ فكُلّما وَقَع معِي شيء له قيمةٌ ومقدارٌ وَجّهْـتـُـهُ إلَى الله ليبقَى عِندَه مَحفوظاً .
الرابعة : أنِي نظرتُ إلَى هذا الخلق فرأيتُ كلّ واحد منهم يَرجِعُ إلَى الْمَـال وإلَى الحَسَب والشّرف والنسب فنظرتُ فيها فإذا هِيَ لا شيء ثم نظرْتُ إلى قول الله تعالى ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّـهِ أَتْـقَـيٰـكُمْ ﴾ فعَمِلتُ في التقوى حتى أكون عند الله كريـماً .
الخامسة : أنِّي نظرتُ إلَى هذا الخلق وهم يَطعُنُ بعضُهُم فِي بَعْضٍ ويَلْعَنُ بعضُهُم بَعْضاً ، وأصلُ هذا كلِّه الحسدُ ، ثـم نظرتُ إلى قول الله عز وجل ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنـْـيَا ﴾ فتركتُ الحسد واجتنبت الْخَلْقَ وعلمتُ أن القسمة مِن عندِ الله سُبحانَه وتعالَى فتركتُ عداوة الخلق عنِّي .
السادسة : نظرتُ إلَى هَذا الخلقِ يَبْغِي بعضُهم على بعض ويُقاتل بعضُهم بَعضاً فرجعتُ إلَى قولِ الله عز وجل ﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰـنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتـَّـخِـذُوهُ عَدُوّاً ﴾ فعادَيْته وَحدَه واجتهدت في أخذ حذري منه ، لأن الله تعالَى شهد عليه أنه عَدُوٌّ لِي فتركتُ عداوة الخلق غيْـرَه .
السابعة : نظرتُ إلَى هذا الخلق فرأيتُ كلّ واحد منهم يطلُبُ هذه الكِسْرَة فيُذِلّ فيها نفسَه ، ويَدْخُل فيما لا يَحِلّ له ، ثـم نظرتُ إلَى قولِهِ تعالَى ﴿ وَمَا مِن دَاۤبـَّـةٍ فِى ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّـهِ رِزْقُهَا ﴾ فعلمتُ أنِّي واحدٌ مِن هذه الدَوَابّ التِي على الله رزقُها ، فاشتغلتُ بِما لِلـهِ تعالَى عَلَيّ وتركتُ ما لِي عِندَه .
الثامنة : نظرتُ إلى هذا الخلق فرأيتُهم كلَّهُم مُتوكلين على مَخلوقٍ : هذا على ضَيْـعَتِه ، وهذا على صِحّة بَـدَنِه ، وكلُّ مَخلوق متوكلٌ على مَخلوقٍ مثلِه فرجعتُ إلَى قولِه تعالَى ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّـهِ فَهُوَ حَسْـبُهُو ﴾ فَتَوَكلتُ على الله عز وجل فهو حَسْبِـي . ))
قال شقيق : يا حاتـمُ وَفقك الله تعالَى ، فإنِّي نظرتُ في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم فوجَدتُ جَميع أنواع الخيْرِ والدِّيانة وهي تدُورُ على هذهِ الثمانِ مَسائل ، فمن استعمَلَها فقَدِ استعمَلَ الكُتبَ الأربعَـةَ . ا.هـ النقل منه .
توفِّيَ أبو عَلِي شقيقُ بن إبراهيم البَلْخِيُّ رضي الله عنه شهيداً في معركة كولان سنة 194 هـ وكان من أصحاب إبراهيم بن أدهَمَ رضي الله عنه ، وفي طبقات الأولياء :
" .. قيل : كان سبب زهده أنه رأى مَملوكاً يلعَب ويَمرح فى زمن قحط ، فعاتبه فقال : ِلمولايَ قرية يدخل له منها ما يحتاج إليه ؛ فانتبه شقيقٌ فقال : (هذا مَولاه مَخلوق ، ومولايَ أغنى الأغنياء)! فترك ما في بيته ، وتخلى للعبادة ."
أما أبو عبد الرحمن حاتِم فإنـما تَصامَمَ ولَم يكن أصَـمَّ ، قال في الطبقات :
مات سنة سبع وثلاثين ومائتين . ولم يكن أصمَّ ، وإنـما جاءَته امرأة تسأله مسألةً ، فاتفق أن خرج منها ريحٌ فخجلت ؛ فقال حاتم : (ارفعِي صَوتك) وأرَى مِن نفسه أنه أصمُّ ، فسُرّت بذلك ، وقالت : إنه لَم يسمع الصوتَ . فغلب عليه ذلك .
وكان هو أيضاً - كشيخه - من أهل الجهاد في سبيل الله بقتال الكفار فوق ما كان فيه من أنواع الجهاد الأخرى .
رحمهم الله ونفعنا بِهم