استدل فقهاؤنا المالكية بحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش ، فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه ، فشكر الله له فأدخله الجنة . رواه البخاري .
قال سيدي علي الأجهوري في شرحه على مختصر ابن أبي جمرة ، نفعنا الله بهما : هذا الحديث مما يستدل به على طهارة الكلب عند المالكية ، فإن الرجل سقى الكلب في خفه ، واستباح لبسه في الصلاة دون غسله ، إذ لم يُذكر الغسلُ في الحديث ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ .
الثاني : أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن شأنها وضع أفواهها بالأرض ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجها ، ولا بغسل ما مسته من أرض المسجد
الثالث : مما استدل به على طهارة عينه وريقه ، قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) فأمرنا الله بأكل ما أمسكه الكلب علينا من الصيد ، ولم يشترط الرب غسلَه ، فدل على طهارة ريقه
الرابع : أن غسل الإناء من ولوغ الكلب لا يدل على نجاسته ، بل هو تعبدي ، كما أن الوضوء وسائر الاغتسالات الواجبة في طهارة الأعضاء لا توجب نجاسة الأعضاء ...
لو كان الغسل سبعا لأجل النجاسة ، لكان الخنزير بذلك أولى ، مع أنه لا يغسل إلا مرة .
الخامس :أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، فقيل إنها تردها السباع ، فقال : ( لها ما حملت في بطونها ، ولنا ما بقي شرابا وطهورا ) .
ذكر ابن وهب قال: حدّثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها. فقال: «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور» أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ. وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه.
وفي البخاريّ عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرشُّون شيئاً من ذلك. وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص: هل ترد حوضك السباع. فقال عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. أخرجه الامام مالك والدَّارَقُطْنِيّ.
ولم يفرّق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة للمخالف في الأمر بإراقة ما ولغ فيه وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته لأن النفس تعافه لا لنجاسته؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه، أو تغليظاً عليهم لأنهم نهوا عن اقتنائها كما قاله ابن عمر والحسن؛ فلما لم ينتهوا عن ذلك غلظ عليهم في الماء لقلته عندهم في البادية، حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها.
وأما الأمر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين: أحدهما: أن الغسل قد دخله العدد. الثاني: أنه قد جعل للتراب فيه مدخل لقوله عليه السلام: «وعفِّروه الثامنة بتراب». ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب فيه مدخل كالبول. وقد جعل صلى الله عليه وسلم الهرّ وما ولغ فيه طاهراً. والهرّ سبُعٌ لا خلاف في ذلك؛ لأنه يفترس ويأكل الميتة؛ فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع؛ لأنه إذا جاء نَصُّ في أحدهما كان نصّاً في الآخر. وهذا من أقوى أنواع القياس. هذا لو لم يكن هناك دليل؛ وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف. والحمد لله." اهـ. (تفسير القرطبي - سورة الفرقان-48)