أقال سيدي محمد بن محمد الحراق الحسني قدس الله سره ونفعنا ببركته :
(حمدك اللهم بالعجز عن أداء ما يليق بك من وجود حمدك ، ونشكرك بإفضاء الفكر إلى أنه لا يعلم ما يناسبك من ذلك أحد من بعدك ، ونخنع إليك خنوع الفقير ، ونسجد لك بمسجد العقل على تراب الذل بسجود الوضيع الحقير ، ونشهد أنك الله الذي تبرم الأحكام ، وتبرز من معين القدرة أعجب الإتقان والإحكام ، حتى أنك جعلت العقول كالأجسام قبائل وشعوبا ، وجعلت حالها شرفا وضده لما تعلقت به معزوا ومنسوبا ، وشرفت بيت الجسم بشرف ساكنه ، وأثبت له من العز بحسب قائده وراسنه ، حتى قال رسولك صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه رضي الله عنهم، :"الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا "، فجعلت فضيلة الإنسان بفضيلة عقله وشفوفه بقدر دنوه منك ، وقرب محله إذ المقصود من الفقه أطوار الأعمال ، والمعتبر من الأعمال أنوار الأحوال ، ولايشرق نور حال شهودك إلا على عقل توليته في السابقة بالعناية ، وجعلت له في اللاحقة التعلق بك بداية ، والوصول إليك نهاية ، فصار هذا العقل مالك العقول، والخليفة عنك فيما يفعل ويقول ، فكل من أقبل عليه من العقول أقبل عليك ، وكل من نظر إليه نظر عطف أصبح مجذوبا إليك ، سطوة إلهية ، وخصوصية رحمانية ، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد المبعوث لسطوع نوره من عشية نهار وجود الدنيا بمغربة من الليل، والقائل :" إذا أخرج الجهنمي بعد إحراقه ينبت كما تنبت الحبة في حميل السيل " ، إشارة لطيفة إلى أن محرق الخواطر لا يضره أن ينبت ضعيفا لأنه لا يزال يقوى بذكرك والانحياز بالذاكرين لك ، حتى ينال من حزبك منزلا شريفا، وعلى آله أغصان دوحته ، وأصحابه حماة دينه وملته ...وبعد.....
فأعلمكم أعلمكم الله خيرا ووقاكم شرا ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " من أحدث أخا في الله أحدث الله له درجة في الجنة " ، ولا تجدون الشارع يرتب ثوابا إلا على ما يقرب من الله سبحانه وتعالى لأن الأعمال ليست مرادة لذاتها ، فكل ما لا يقرب من الله وإن كان في الظاهر طاعة فلا عبرة به ، وهذا الذي لا يقرب من الله إن نظرتم فيه وجدتم فيه ما يعود عليه بالإبطال عند الشارع أيضا ، وأما عند أهل الذوق الذين وقفوا بتوفيق الله لهم على حقائق الأمور ، فالأمر عندهم في الإخوان ظاهر ، لأن الأخ في الله وهو الذي يؤاخيك في الله لا لغرض سواه ، وإن كان شيء آخر فيحسب التبع لا بحسب الأصالة في الأخوة ، والقصد الأول رحمة كله لأخيه ، فلقيه رحمة ، وكلامه رحمة ، والنظر إليه رحمة ، والجلوس معه رحمة ، والتفكر فيه بعد فراقه رحمة ، لأنه يدل بأحواله كلها على الله ، فهو إعانة للسائر وزيادة للواصل ، والتجريب الصادق يصدق إن شاء الله ما ذكرناه ، ولذلك اتخذت الأكابر هذه الزوايا ليجتمع فيها الإخوان للذكر والمذاكرة ، وذلك لأن بركة الاجتماع مع الإخوان لا نهاية لها ، والله يا إخوان لو علم العاقل مزية الأخ في الزيادة لحضرة الله ، حتى يشتريه بماله لو كان يباع ، ومهما كثر الإخوان وعظم الجمع قوي المدد ، واستروحوا ذلك من قوله صلى الله عليه وآله وسلم :"اطلبوا المدد عند تزاحم الاقدام"،.... وكما يطلب الجسم رزقه من المطعوم ، فكذلك تطلب الروح رزقها من العلوم والفهوم، ومهما كان الإنسان لا يفارق الإخوان في غالب أحواله إلا اشتد حضوره وقوي مدده ، وثبتت قدمه ، ولا يجد الشيطان إليه سبيلا ، لوفور قوته في الحضور ، بضم قوته إلى قوة مدد الإخوان ، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان ، يشد بعضه بعضا "
وقد علمتم - يا إخواننا - أن كيد الشيطان وحيله أمر ضعيف ، لقول الحق سبحانه وتعالى ﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾[النساء:76 ] يغلب الضعيف إلا من هو أضعف منه ، وأما القوي فلا يسأل عنه ، وأنتم يا إخواننا إن ظهر الناس على كدية من الخير فقد ظهرتم والحمد لله على جبل ، فنحبكم - أحبكم الله - أن تكونوا رجالا ولا تلقوا آذانكم إلى قول قائل ، ودوموا على ما أنتم عليه من اجتماعكم بالزاوية ، وعلى الخصوص يوم الجمعة ، فإن الذكر فيه آكد من غيره ، واستروحوا ذلك من قوله سبحانه وتعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾ [الجمعة:10] . لأن ابتغاء كل أحد على قدر همته ، وولوع عقله فيما يتعلق به ، وصاحب الهمة العالية - وهي المتعلقة بالله - ليس له ابتغاء يساوي ابتغاء ذكر الحبيب والجلوس مع من يذكره ، أو يذكر فيه لأنه محل بسطه وسروره و ابتهاجه ، وإن ذكر سواء انقبض وتكدر ، ... على عكس أحوال أهل الغفلة عن الله ، أعاذنا الله وإياكم منها .
ومن جمع الإخوان على شيء عادت عليه بركة جمعهم ، فشدوا أيديكم بصدق العزائم على ذكر ربكم والاجتماع عليه ، ولايخفى عنكم أنه سبحانه وتعالى ذاكركم عند ذكركم إياه ، ومقبل عليكم عند إقبالكم عليه ، وكل أمر تتركونه لأجل الاشتغال به يأتيكم الله بخير منه لأن يده العليا ، وما كان في الله تلفه كان على الله خلفه .
واعلموا ... أن ذلك إنما يكون لمن لا غرض له بفعله إلا الله ، تجريدا من الحظوظ ، وأما من يقصد بعمله جزاء فعمله معلول بعلة الجزاء والعوض ، والله سبحانه وتعالى ، لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا له و حده ... فخذوا حذركم - بارك الله فيكم - أن يراكم الحق سبحانه وتعالى قاصدين سواه ، أو ناظرين بعقولكم إليه يزهدكم في كل شيء سواه ، بل لا تروا شيئا سواه ، ويصير الطبع بحكم الطوع و الاختيار خارجا عن الكون وهو ساكن فيه ، والله سبحانه وتعالى يأخذ بيدنا ويدكم ويد المسلمين أجمعين ، والسلام )