قال الشيخ يوسف القرضاوي -وفقه الله -في كتابه عن "الغناء والموسيقى"ص 40-44:" ولعل أبرز حديث يذكره المحرمون في هذا المقام هو حديث( المعازف ) الذي كثر في الكلام ، واشتد حوله الخصام.
و هو الحديث الذي ذكره البخاري في صحيحه ( معلقا) عن هشام بن عمار بسنده إلى أبي عامر أو أبي مالك الأشعري ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر و المعازف " و المعازف : الملاهي ، أو آلات العزف.
و الحديث وإن كان في صحيح البخاري ، إلا أنه من "المعلقات " لا من "المسندات المتصلة" و لذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده ، ومع التعليق فقد قالوا : إن سنده و متنه لم يسلما من الاضطراب ، ودلالته على التحريم غير صريحة. والشرع قد شدد في التحريم حتى لايتوسع الناس فيه ، ويحرموا زينة الله التي أخرج لعباده و الطبيات من الرزق."
هذا كلام الشيخ –وفقه الله- وسأناقش كلامه من الناحية الحديثية فقط. وإلا فإن في كتابه تخليط بين تحريم الموسيقى وتحريم الغناء المذموم. حيث أن الكلام عند الفقهاء الذين منعوا المعازف متوجه أصالة إلى آلات العزف دون ما يصاحبها من إنشاد. وهذا وضعوا له قاعدة " حسنه حسن وقبيحه قبيح"
فأقول مستعينا بالله تعالى :
كلام الشيخ حوى مغالطات عديدة تظهر مما يلي:
1-قوله :" و الحديث وإن كان في صحيح البخاري ، إلا أنه من "المعلقات " لا من "المسندات المتصلة" و لذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده ، ومع التعليق فقد قالوا : إن سنده و متنه لم يسلما من الاضطراب ، ودلالته على التحريم غير صريحة. والشرع قد شدد في التحريم حتى لايتوسع الناس فيه ، ويحرموا زينة الله التي أخرج لعباده و الطبيات من الرزق."
تضمن مسائل :
أ-أن هذا الحديث من "المعلقات " ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده؛ و هذا كلام صحيح ، لكن مسألة التعليق جاءت مجزوما بها . و كونه كذلك لا يكون مطرحا ولا يكون منقطع السند كما قاله الشيخ خصوصا وأنه قد جاء موصولا من طريق جماعة. و شذوذ ابن حزم لا يجعل هو الفيصل و ما جهله هو فقد عرفه غيره. و في بيان ذلك يقول ابن حجر: "وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه ، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال" "الفتح"(10/53)
وإذا كان كذلك فقد توفر في حديث الباب ما ذكره الحافظ هنا ، قال الحافظ ابن رجب في "نزهة الأسماع"(2/449 مجموع رسائله):"هكذا ذكره البخاري في كتابه بصيغة التعليق المجزوم به، والأقرب أنه مسند ؛ فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري . وقد قيل: إن البخاري إذا قال في صحيحه : "قال فلان " و لم يصرح بروايته عنه ، وكان قد سمع منه ، فإنه يكون قد أخذه عرضا أو مناولة أو مذاكرة ، وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مسندا ، والله أعلم.
و خرجه البيهقي من طريق الحسن بن سفيان، ثنا هشام بن عمار ، فذكره. فالحديث صحيح محفوظ عن هشام بن عمار"
و قد قال ابن حجر في "الفتح" (10/52):" وإنما الذي وقع في رواية أبي ذر من الفائدة أنه استخرج هذا الحديث من رواية نفسه من غير طريق البخاري إلى هشام ، على عادة الحفاظ إذا وقع لهم الحديث عاليا عن الطريق التي في الكتاب المروي لهم يوردونها عالية عقب الرواية النازلة ، وكذلك إذا وقع في بعض أسانيد الكتاب المروي خلل ما من انقطاع أو غيره وكان عندهم من وجه آخر سالما أوردوه ، فجرى أبو ذر على هذه الطريقة ، فروى الحديث عن شيوخه الثلاثة عن الفربري عن البخاري قال : " وقال هشام بن عمار " ولما فرغ من سياقه قال أبو ذر : حدثنا أبو منصور الفضل بن العباس النضروي حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن عمار به " اهـ
قال : "وأما كونه سمعه من هشام بلا واسطة وبواسطة فلا أثر له ، لأنه لا يجزم إلا بما يصلح للقبول ، ولا سيما حيث يسوقه مساق الاحتجاج" .اهـ المراد
لطيفة : ذكر الحافظ ابن حجر سبب تعليق البخاري لهذا الحديث فقال : "ومنها ما لا يورده في مكان آخر من الصحيح مثل حديث الباب ، فهذا مما كان أشكل أمره علي ، والذي يظهر لي الآن أنه لقصور في سياقه ، وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي ، وسيأتي من كلامه ما يشير إلى ذلك حيث يقول : إن المحفوظ أنه عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك ، وساقه في " التاريخ " من رواية مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم كذلك ، وقد أشار المهلب إلى شيء من ذلك ."
ب – أن متنه وسنده لم يسلم من الاضطراب ، فهذا مما لم أقف على أحد من الحفاظ صرح به و أعل الحديث به. وإعلال الحديث بالاضطراب سواء في السند أو المتن لا يقبل إلا من حافظ مطلع
2-قال :" و قد اجتهد الحاقظ ابن حجر لوصل الحديث، ووصله بالفعل من تسع طرق ، ولكنها جميعا تدور على راو تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد ، ألا وهو : هشام ابن عمار . وهو –وإن كان خطيب دمشق و مقرئها و محدثها و عالمها ، ووثقه ابن معين والعجلي – فقد قال عنه أبو داود : حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها.
قال أبو حاتم : صدوق ، وقد تغير ، فكان كل ما دفع إليه قرأه ، و كل ما لقنه تلقن. و كذلك قال ابن سيار. و هذه آفة كبيرة تجعلنا نتوقف فيما يرويه ، ولعله مما لقنه بعد التغير.
و قال الإمام أحمد : طياش خفيف.
و قال النسائي : لا بأس به ( وهذا ليس بتوثيق مطلق ، بل العبارة تشعر بشيء من الضعف )
و رغم دفاع الحافظ الذهبي عنه قال : صدوق مكثر له ما ينكر.
و أنكروا عليه أنه لم يكن يحدث إلا بأجر ..
صحيح أنه من رجال البخاري ، ولكنه ممن انتقدوه على البخاري ، ودافع عنه الحافظ ابن حجر في (هدي الساري)..."اهـ كلامه
و عليه مؤاخذات : إذ أن كلامه في هشام بن عمار لإعلال الحديث بأي طريق ـ و هو من رجال البخاري و ممن جاوز القنطرة ـ غير مقبول . و مع التسليم يمكن أن يقال أن البخاري قد انتقى له من حديثه ما هو صحيح و هو منه هو في نقد الأخبار و ما أورده هنا من تجريح البعض له إن سلم- وهو غير مسلم- لا يكون لوحده كافيا في اطراح الحديث لذلك قال الزيلعي "نصب الراية"(1/341):" ومجرد الكلام في الرجل لا يسقط حديثه ، ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة ، إذ لم يسلم من كلام الناس ، إلا من عصمه الله ، بل خرج في " الصحيح " لخلق ممن تكلم فيهم : ومنهم جعفر بن سليمان الضبعي .والحارث بن عبيد الإيادي .وأيمن بن نابل الحبشي .وخالد بن مخلد القطواني .وسويد بن سعيد الحدثاني .ويونس بن أبي إسحاق السبيعي .وغيرهم . ولكن صاحبا الصحيح رحمهما الله إذا أخرجا لمن تكلم فيه ، فإنهم ينتقون من حديثه ما توبع عليه ، وظهرت شواهده ، وعلم أن له أصلا"
قال الإمام الحازمي"شروط الأئمة الخمسة"(172-173): " أما إيداع البخاري ومسلم كتابيهما حديث نفر نسبوا إلى نوع من الضعف فظاهر ، غير أنه لم يبلغ ضعفهم حداً يرد به حديثهم ، مع أنا لا نقر بأن البخاري كان يرى تخريج حديث من ينسب إلى نوع من أنواع الضعف ، ولو كان ضعف هؤلاء قد ثبت عنده لما خرج حديثهم ، ثم ينبغي أن يعلم أن جهات الضعف متباينة متعددة ، وأهل العلم مختلفون في أسبابه "
مع أن بعض ما ذكره الشيخ في هشام بن عمار أكثره جرح مبهم غير مفسر. و إن لم يكن كذلك فهو تجريح لا يوجب قدحا كقوله: "و أنكروا عليه أنه لم يكن يحدث إلا بأجر ."
وما ذكره عن الإمام أحمد جاء عند الذهبي في "ميزان الاعتدال"" (4/302)، لكن اقتطعه الشيخ من سياقه ، و هو ذا بتمامه :" وقال المروزى: ذكر أحمد هشاما فقال: طياش خفيف.
قال المروزى: ورد كتاب من دمشق: سل لنا أبا عبدالله، فإن هشام بن عمار قال لفظ جبريل ومحمد عليهما السلام بالقرآن مخلوق، فسألت أبا عبدالله فقال: أعرفه طياشا، قاتله الله لم يجترئ الكرابيسى أن يذكر جبريل ولا محمدا صلى الله عليه وسلم.هذا قد تجهم.وفى الكتاب أنه قال في خطبته، الحمد لله الذى تجلى لخلقه بخلقه، فسألت أبا عبدالله، فقال: هذا جهمى، الله تجلى للجبال، يقول هو: تجلى لخلقه بخلقه، إن صلوا خلفه فليعيدوا الصلاة."
وانظر إلى إنصاف الذهبي للرجل فقال :"قلت: لقول هشام اعتبار ومساغ، ولكن لا ينبغى إطلاق هذه العبارة المجملة، وقد سقت أخبار أبى الوليد رحمه الله في تاريخي الكبير، وفى طبقات القراء، أتيت فيها بفوائد، وله جلالة في الاسلام، وما زال العلماء الأقران يتكلم بعضهم في بعض بحسب اجتهادهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم."
فما وقع لهشام بن عمار مع الإمام أحمد مثله مثل ما وقع للكرابيسي معه أيضا فرحم الله أئمة الإسلام. فكيف يقبل هذا ؟
مع أن في "الميزان" تعديلا له من كبار النقاد و المتشددين منهم كابن معين و النسائي وأبو زرعة وقد ضرب الشيخ أقوالهم بعرض الحائط و انتقى ما هو موافق لما ذهب إليه وإن لم يكن كذلك في نفس الأمر.
-قوله :" و الطرق الأخرى التي وصل بها ابن حجر الحديث المعلق في كتابه ( تغليق التعليق) فيها راو آخر أشد ضعفا من هشام بن عمار، وهو : مالك بن أبي مريم ، الذي قال عنه ابن حزم : لا يدرى من هو. وقال الذهبي –وهو علامة الأمة في شأن استقراء الرجال - : مجهول."
قلت : ما يتعلق بمالك بن أبي مريم الذي ذكره الحافظ في بعض الطرق لوصل الحديث قد جاء الكلام عليه في "تهذيب التهذيب " :" ذكره ابن حبان في الثقات ؛ قلت: وقال ابن حزم لا يدري من هو وقال الذهبي: لا يعرف."هكذا ؛ ولم يقل الذهبي : مجهول ، وبينهما فرق واسع عند الحذاق ،و أهل الحديث يصرحون بعدم المعرفة فيقولون " لا أعرفه " حكاية الناقد عن نفسه ، أو يقول :"لا يعرف" حكاية الناقد عن نفسه وعن غيره. و يتحاشون المجازفة بإطلاق الجهالة إذ بينهما بون كبير. لذلك قال الإمام ابن حجر في"لسان الميزان"(2/156):" ولم يعرفه- أي اسماعيل الصفار- ابن حزم فقال في "المحلى" إنه مجهول ، وهذا تهور من ابن حزم، يلزم أن لا يقبل قوله في تجهيل من لم يطلع هو على حقيقة أمره.
و من عادة الأئمة أن يعبروا في مثل هذا بقولهم : لا نعرفه ، أو لا نعرف حاله. و أما الحكم عليه بالجهالة فقدر زائد ، لا يقع إلا من مطلع أو مجازف"
وقال أيضا"اللسان"(1/533) :" ابن القطان ابن حزم في إطلاق التجهيل على من لا يطلعون على حاله"
و مع ما ذكر فإن ابن حبان قد وثقه و يكفيه ،خصوصا وأنه تابعي مسكوت عنه-لقلة حديثه- في كتب الجرح والتعديل و لم يجرح و لم يأت بمتن منكر، و هذا بعينه منهج ابن حبان من أنه يوثق كل من عرفت عينه واستقامت مروياته .
4-قوله:"هذا، وقد روى هشام بن عمار الحديث عن صدقة بن خالد ، وقد ذكر الشوكاني في (النيل) عن صدقة هذا أن ابن الجنيد حكى عن يحيى بن معين : أنه ليس بشيء ؛ و روى المزي عن أحمد : أنه ليس بمستقيم . والحق أني لم أجد مصدرا لهذا الكلام في كتب الجرح والتعديل التي رأيتها. ولم يذكره ابن حجر فيمن انتقدوا على البخاري."
قلت : غفر الله للشيخ لو أنه رجع ل"فتح الباري" في مظانه لعلم أن كلام الشوكاني مطرح و أنه أبعد النجعة ، فقد جاء في "الفتح" (10/54):" صدقة بن خالد: هو الدمشقي من موالي آل أبي سفيان ، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في مناقب أبي بكر ، وهو من رواية هشام بن عمار عنه أيضا عن زيد بن واقد وصدقة هذا ثقة عند الجميع ، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه ، ثقة ابن ثقة ليس به بأس ، أثبت من الوليد بن مسلم . وذهل شيخنا ابن الملقن تبعا لغيره فقال : ليته - يعني ابن حزم - أعل الحديث بصدقة فإن ابن الجنيد روى عن يحيى بن معين : ليس بشيء ، وروى المروزي عن أحمد : ذلك ليس بمستقيم ولم يرضه . وهذا الذي قاله الشيخ خطأ ، وإنما قال يحيى وأحمد ذلك في صدقة بن عبد الله السمين وهو أقدم من صدقة بن خالد ، وقد شاركه في كونه دمشقيا ، وفي الرواية عن بعض شيوخه كزيد بن واقد ، وأما صدقة بن خالد فقد قدمت قول أحمد فيه ، وأما ابن معين فالمنقول عنه أنه قال : كان صدقة بن خالد أحب إلى أبي مسهر من الوليد بن مسلم ، قال وهو أحب إلي من يحيى بن حمزة . ونقل معاوية بن صالح عن ابن معين أن صدقة بن خالد ثقة ، ثم إن صدقة لم ينفرد به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بل تابعه على أصله بشر بن بكر كما تقدم ."اهــ
و منه يبين أن " هذا حديث صحيح ، لا علة له ولا مطعن" كما قاله الحافظ في "تغليق التعليق"(5/22)