> الرحلة إلى المغرب العربي في إكمال تعليمك، أحاطت شخصك ببعض التساؤلات... فهل ما زال للمدرسة الزيتونية قيمة فقهية مختلفة عن جامعة «الإمام» مثلاً؟
- التساؤلات تتجه إلى من أبى أن يستزيد وقنعَ بما عنده، لأن مِن سلامة التفكير وصَلاح الذَّوق أن يشرب الإنسان من أكُفٍّ متعدِّدة ومشارب متنوِّعة، فتقوَى عنده حاسَّة التذوُّق للأشياء والإدراك للمعاني، وقد كان العلماء قديماً يتمدَّحون بكثرة الشيوخ، ويعدُّون مِن النقص الاقتصار على شيخٍ واحد يَبقى بسببه العقلُ مغلقاً على آرائه واجتهاداته.
> اشتهرت لدى المالكية والمغرب العربي قضايا مثل «المقاصد» والمصالح المرسلة... ماذا تركت عناوين كهذه من أثر في الساحة الفقهية هنالك؟
- التميُّز الملحوظ لدى المالكية في المقاصد والمصالح لا يعني أنها شيءٌ انفردوا بالقول به دون غيرهم، وإنما يعني أنهم سبقوا غيرهم في ابتكار معانيه وتفصيل القول فيه، كما قيل في علم أصول الفقه بأن أول من صاغه الإمام الشافعي، وإلا فمسائل الأصول منثورة في أقوال الصحابة والتابعين.
وأشار إلى معظمها الإمام مالك في موطئه، فمقاصد الشريعة بذورها في الموطأ، والتنبيه إليها كثيرٌ عند مَن جاء بعده، ككتب ابن العربي والعز بن عبدالسلام والقرافي، حتى جاء أبو إسحاق الشاطبي فابتكر من بديع فروعها الكثير، وبعده شيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور، وهذا يُبرز ثراء هذه الشريعة وأنها تحمل في طيَّاتها عوامل النَّماء.
> عُرفت بعض بلاد المغرب العربي باختيارات فقهية خاصة، كثورة نساء القيروان من قبلُ ضد التعدد، ورأيهم في اللحى والموسيقى... فهل مسك طائف من اختيارات تلك الناحية وأنت غدوت من أهلها؟
- ليس في الأمر ثورة ضد التعدد تفرضها النِّساء القيروانيات على شريعتهن، فقد كانت نساء القيروان يشترطن أن تكون العصمة في يد الزوجة إذا تزوج عليها ثانية، وهذا الشرط معتبر عند المالكية وعند غيرهم، حتى صار هذا عرفاً سائداً في البلد، فصار يُكتب في عقد الزواج عبارة «على عادة نساء أهل القيروان» ويُسمى هذا بالصداق القيرواني أو الجعل التحريمي.
أما اللحية والآلات فلا أدري ما الذي انفردوا به دون غيرهم!
> بمناسبة ذكر التعدد، قال كاتب لبناني إنها قنبلة الخليج الموقوتة، وترجمت ذلك سريعاً كاتبة سعودية استفزت في حديثها عن «أزواج أربعة» لأنثى، العامة والفقهاء... فكيف ترى هذه المسألة الحساسة؟
- مشكلة التعدُّد من المشكلات التي تعاني منها معظم شعوب الأرض، فاليوم مثلاً لا تجد الرجلَ في بلاد الغرب يكتفي بامرأة واحدة، بل ولا تكفيه أربع نسوة، ثم تجده يَعتب على شريعة الإسلام لأنها اشترطت عليه أن يُعامِلَ كلَّ امرأة يريد الوصول إليها معاملة الأولى بالعدل والإنصاف، ولأنها مَنعتْه أن يزيد على أربع نسوة! لكنها الذئاب البشرية تريد النساء محلاً للمتعة.
> التسهيلات الفقهية المتسارعة في غض الطرف عن صيغ أنكحة جديدة أو إباحة أخرى... كيف تراها أنت؟ هل تجدها بدائل مناسبة للتعدد أم أبواب فجور جديدة؟
- لعلك تشير إلى أمثال الزواج بنية الطلاق، كمن يتزوَّج وفي نيَّته أن يطلق، فإذا تزوَّج الرجلُ امرأةً ولم يظهر منه ما يفيد قَصْدَ التمتُّع مدَّة من الزمن، فليس لنا أن نمنع الزواج، فنحن لا نملك أن نكشف القلوب ونقف على ما تُكنُّه الضمائر، والذي نملك أن نُحذِّر من هذا السلوك، وأن نقول ما قاله الإمام مالك عن هذا النكاح: (هذا ليس من أخلاق الناس) فَعَيبٌ على الرجل ونقصٌ في رجولته وقلَّة مروءة منه أن يغشَّ غيره.
> زعم باحث أنه في كل العصور كانت ثمة بدائل غير التعدد، وهو يعني ملك اليمين... فهل الفقهاء بإجازتهم أنكحة جديدة مثيرة، يعوضون الرجال عن الجواري؟
- ليست هذه الأنكحة جديدة إلا على من لم يقرأ كتب الفقه، إن الله شرع النكاح وجعل له أركاناً وواجبات ومندوبات، فإذا اختل أحد الأركان بطل العقد، وإذا لم يأخذ الزوجان بواجبات العقد ولا مندوباته صار العقد مظنَّة للاختلال ولحصول الخلافات والضرر، كمن تزوَّج وكتم الخبر إلا عن عدد محدود من الناس جبناً منه وخوفاً، وربَّما أبقى الزوجة في دار أبيها يأتيها نهاراً، ويسمَّى هذا قديماً: النَّهارية، ويُسمِّيه بعضهم الآن زواج المسيار، ثم حين يختلف معها ربَّما قال لها: لو كنتِ مرغوبة لما قَبِلْتِ بالمسيار.
أما الجواري، فلم يكن من شريعة الإسلام، بل جاء الإسلام وكانت العبودية تقع بصورٍ شتى، ومنها الخطف، فمنعَ جميعَ الصور وأباح ما كان عبر الجهاد معاملة للآخرين بالمثل، ثم فرض على مَن لديه عبدٌ أو أمَة واجبات من حسن المعاملة، ومن عظيم الرعاية بالإماء أنها لَم تُترك كالخادم، بل أذنَ الشارعُ للرجل أن يأتي أمَتَه، فقد يزيده هذا رفقاً بها وإكراماً لها ولعلها تلد منه، فاحتياجها لهذا أعظم من حاجة سيِّدها.
> منحت تونس كل زائر لها شيئاً غريباً أحياناً، فمنحت عرفات سهى، ونقضت وضوء القرضاوي... فماذا عنك أنت؟
- الملاحظ على أهل تونس أنهم مع اعتزازهم بأنفسهم فإنهم يحبون الضيف ويكرمونه، فله عندهم مقام رفيع، وفي تونس يجد الباحث بغيته من نوادر المخطوطات وتنثر بين يديه كتب أصول الدين والفقه وأصوله والتفسير والحديث، وفيها من كتب التراجم والتاريخ الكثير، وتجد الكثير منها لم يُطبع بعد، تجمع الكثير منه دار الكتب الوطنية الواقعة بالبلدة العتيقة قرب جامع الزيتونة، هي واحدة من أشهر مراكز المخطوطات في العالم، وقد لاحظت أن كثيراً ممن يزور تونس زيارة عمل لسنة أو أكثر يألفها، ووجدت بعض من استقرَّ فيها، ورأيت من يتمنى البقاء بها لولا العوائق، وقد منحتني التَّلمذة على علماء كبار كالشيخ محمد الشاذلي النَّيفر وغيره.
> لست أول أحسائي ولا أول مالكي ينضم إلى كبار العلماء، ولكن ماذا يعني لك قبولك عضواً فيها؟
- مزيد انشغال، وكثرة أعباء والتزامات.
> بصراحة... هل تأثير الهيئة ما زال مغرياً لأن يتسابق المشايخ على عضويتها؟ وماذا تضيف إلى المنضم إليها؟ وهل لمست اختلافاً بين نظرة الناس إليك من قبلُ ونظرتهم إليك الآن بعد عضويتك فيها؟
- إنما يرغب فيها مَن ليس أهلاً لها، أما مَن هو أهلٌ لها فالأصل أنه راغبٌ عنها، وهو أزهد الناس فيها، فهي مسؤولية، وهو أدرى الناس أنَّ الأجر فيها كبير لمن أخلص، والإثم عظيم على مَن قصَّر.
> هيئة كبار العلماء بحسب اسمها... وماذا عن أواسط العلماء وصغارهم؟ وكيف تكون العلاقة معهم؟
- كلٌّ عنده ما ليس عند غيره، فلا يستغني فقيه عن رأي فقيه، والحِمْلُ يقع على الجميع، فالكل في مركب واحد، وقد قيل: ما حوى العلمَ جميعاً أحدٌ// لا ولو مارَسَهُ ألفَ سنة.
> خطوة تشكيل الهيئة من المذاهب السنية كافة... هل يضيف إليها شيئاً مذكوراً، أم هو اختلاف لفظي لا أكثر، ولا سيما أن المذاهب السنية جميعاً تستقي من نبع واحد؟
- قطعاً تستقي من نبع واحد، فكلُّهم من رَسُول الله مِلْتَمِس، إذْ لا يُمكن الجمع بين فُرقاء لا يرجعون لأصول واحدة، ثم إن الأمر ليس خلافاً لفظياً، بل خلاف تنوُّع وإثراء كما قال الإمام الغزالي، ولولا هذا ما كانت شريعتنا خالدة.
> هنالك مسألة تتردد كثيراً حول العلماء الرسميين، فهم إن وافقوا النظام قيل إنهم علماء سلطة، وإن خالفوه في الرأي أحياناً اعتُبِروا متحجِّرين... ما المخرج من هذا الوضع؟
- جُبِلَ الناسُ على ذمِّ زمانهم وعدم الرضا، فلا سبيل للسلامة مِن ألسنة العامَّة، فالأمر - كما قال أكثم بن صيفي - رضا الناس غاية لا تدرك، فعلى المرء أن يسلك السلوك السَّوي، وأن يعمل العمل المنوط به بما يرضي الله تعالى، وبعد ذلك ليس عليه من سوء ظن بعض الناس به، لكن ينبغي أن نعلم أنَّ حُكْمَ الناس على شخص بالأمانة أو الديانة أو السماحة أو اليُبْس أوغير ذلك، مِن حيث العموم حُكمٌ صحيح.
> بالأمس قال أحد المشايخ المشهورين إن العلماء لهم مقام خاص ومكانة يجب أن تراعى... بكل صدق، ماذا يريد العلماء من الحديث عن أنفسهم بهذه الطريقة؟ هل يشعرون بهضم حقوقهم اجتماعياً، أم يطلبون أن يكونوا من «الثوابت»؟
- تقديرُ الناس وتنزيل كل واحد المقام اللائق به من كمال المروءة، وربَّما بالَغت الدساتير الحديثة فمنحت طائفةً من الناس ما يُسمَّى بالحصانة، لكن الشأن في العلماء أنهم ليسوا طلاب مالٍ ولا وجاهة ولا مقامات خاصة، ووظيفتهم النصح والدلالة على ما فيه خير البشر.
> يتهم بعض مشايخنا بمحاولتهم احتكار الآراء، وعدم الخروج عن فتوى مؤسسة الإفتاء... ما رأيك في هذه الجزئية؟
- المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولا يجوز لأحدٍ أن يمنع غيره مِن أن يكون له رأي، وإذا وقع شيء من ذلك فينبغي أن يُحمل على أن مؤسسة الإفتاء تمثِّل المدارس السُّنِّية المعتبرة ولا تخرج عنها بفتاوى شاذَّة، فالخروج بفتاوى شاذَّة هو سبب الفوضى في الفتوى.
> أعضاء في هيئة كبار العلماء خرجوا عنها باكراً بفتاوى لا تمثل «الهيئة» جرى بها العمل... فهل أنت بدأت في السير على هذا الخط أم تفضل التمسك برأي الجماعة طالما أنت عضو فيها؟
- العضوية في «الهيئة» لا تعني انخلاع العضو عن رأيه، بل لكل عضوٍ إبداء الرأي الذي يراه بكامل اختياره، ثم قد تتفق الآراء، وقد يكون هذا هو الغالب.
وقد تتفاوت أحياناً، ثم إنَّ وجود رأي مخالف لا يعني مخالفة الجماعة، لأن الخلافَ في المسائل الاجتهادية مشروع، فالخروج على الجماعة يكون عندما يتَّفق العلماءُ في مسألةٍ على قول واحد ثم يخرج علينا أحدهم برأيٍ شاذ.
> المناصب كلها تشترك في جاهها وإحراجها إحياناً... ما قدمت لك «الهيئة»، وفي أي شيء أحرجك الانتماء إليها؟
- قدَّمتْ لي كثيراً من الأعباء، ومزيداً من المسؤولية، وأما الإحراج فلا وجه له، الإحراج حين يُشغل الفقيه بما ليس من شأنه كالأعمال الإدارية.
> للقضاة والديبلوماسيين حصانة... فهل لكبار العلماء حصانة مماثلة؟
- تقدِّر الشريعة الإسلامية لأهل الفضل والنُّبل والعلم فضلهم وخيرهم، وتحُول دون التعريض بهم تصريحاً أو تلميحاً، وقد نصَّ العلماءُ على أن مَن اتَّهم أحد المعروفين بالعفَّة والنزاهة، فعليه إثبات تهمته وإلا أُدِّب، غير أن هذا لا يعني القبول بما يسمَّى «الحصانة» المعمول بها في دساتير كثير من البلاد، فكل الناس بشر أمام القضاء.